كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَرِيبٌ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ تَقْدِيمُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ- رَحِمَهُ اللهُ تعالى- الْعَمَلَ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ وَالْمُرْسَلِ عَلَى الْقِيَاسِ وَتَعْلِيلُهُ بِمَا عَلَّلَهُ بِهِ.
وَمِنْهَا: أنه لَوْ وَضَعَ تِلْكَ الْقَوَاعِدَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ صلى الله عليه وسلم لَكَانَ غَيْرَ عَامِلٍ بِالشُّورَى، وَذَلِكَ مُحَالٌ فِي حَقِّهِ لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللهِ، وَلَوْ وَضَعَهَا بِمُشَاوَرَةِ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَقَرَّرَ فِيهَا رَأْيَ الْأَكْثَرِينَ مِنْهُمْ كَمَا فَعَلَ فِي الْخُرُوجِ إِلَى أُحُدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ رَأْيَ الْأَكْثَرِينَ كَانَ خَطَأً وَمُخَالِفًا لِرَأْيِهِ صلى الله عليه وسلم، فَهَلْ يَرْضَى صلى الله عليه وسلم أَنْ يَحْكُمَ أمثال أُولَئِكَ الْقَوْمِ وَمَنْ دُونَهُمْ- كَأَكْثَرِ مَنْ دَخَلَ فِي الإسلام بَعْدَ الْفَتْحِ- فِي أُصُولِ الْحُكُومَةِ الإسلاميَّةِ وَقَوَاعِدِهَا؟ أَلَيْسَ تَرْكُهَا لِلْأُمَّةِ تُقَرِّرُ فِي كُلِّ زَمَانٍ مَا يُؤَهِّلُهَا لَهُ اسْتِعْدَادُهَا هُوَ الْأَحْكَمَ؟
بَلَى، وَقَدْ تَبَيَّنَ كُنْهُ ذَلِكَ الِاسْتِعْدَادِ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ كَانَ غَيْرَ كَافٍ لِوَضْعِ قَانُونٍ كَافِلٍ لِقِيَامِ الْمَصْلَحَةِ، وَلِذَلِكَ بَادَرَ عُمَرُ إِلَى مُبَايَعَةِ أَبِي بَكْرٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا) خَوْفَ الْخِلَافِ الْمُهْلِكِ لِلْأُمَّةِ؛ وَصَرَّحَ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنَّ بَيْعَةَ أَبِي بَكْرٍ كَانَتْ فَلْتَةً وَقَى اللهُ الْمُسْلِمِينَ شَرَّهَا لَا يَجُوزُ الْعَوْدُ إِلَى مِثْلِهَا، وَكَذَلِكَ اسْتَشَارَ أَبُو بَكْرٍ كُبَرَاءَ الصَّحَابَةِ فِي الْعَهْدِ إِلَى عُمَرَ، فَلَمَّا عَلِمَ رِضَاهُمْ عَهِدَ إِلَيْهِ حَتَّى لَا يَكُونَ لِلتَّفَرُّقِ وَالْخِلَافِ مَجَالٌ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا. وَلَوْ كَانَ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه يَعْتَقِدُ أَنَّ الْأُمَّةَ مُسْتَعِدَّةٌ لِإِقَامَةِ الشُّورَى عَلَى وَجْهِهَا مَعَ الْأَمْنِ مِنَ التَّفَرُّقِ وَالْخِلَافِ، لَتَرَكَ لَهَا الأمر، وَلَمْ يُحَاوِلْ جَمْعَ كَلِمَةِ أُولِي الأمر مِنْهَا فِي حَيَاتِهِ عَلَى مَنْ يَرَاهُ هُوَ الْأَصْلَحَ حَتَّى يَمُوتَ آمِنًا عَلَيْهَا مِنْ تَفَرُّقِ الْكَلِمَةِ.
يَقُولُ قَوْمٌ: إِنَّ بَيْعَةَ عُمَرَ كَانَتْ بِالْعَهْدِ لَا بِالشُّورَى الَّتِي هِيَ الْأَسَاسُ لِلْحُكُومَةِ الإسلاميَّةِ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَهَذَا الْعَهْدُ رَأْيُ صَحَابِيٍّ لَا يَصِحُّ أن يكون نَاسِخًا لِلْقُرْآنِ وَلَا مُخَصِّصًا وَلَا مُقَيِّدًا لَهُ، فَكَيْفَ عَمِلَ بِهِ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَاتَّخَذَهُ الْفُقَهَاءُ قَاعِدَةً شَرْعِيَّةً؟ إِذَا أَوْرَدَ هَذَا السُّؤَالَ شِيعِيٌّ أَوْ غَيْرُ شِيعِيٍّ مِنَ الْبَاحِثِينَ الْمُسْتَقِلِّينَ عَلَى أَحَدِ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْفِقْهِ يُجِيبُهُ بِنَاءً عَلَى قَوَاعِدِهِ: أنه رَأْيٌ قَبِلَهُ الصَّحَابَةُ وَأَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَالْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الشِّيعَةَ وَالْمُسْتَقِلِّينَ بِالْعِلْمِ مِنْ غَيْرِهِمْ لَا يُقْنِعُهُمْ هَذَا الْجَوَابُ، فَهُمْ يُنَازِعُونَ فِي حُصُولِ هَذَا الْإِجْمَاعِ وَفِي جَوَازِ مِثْلِهِ مَعَ النَّصِّ وَكَوْنِهِ فِي مَسْأَلَةٍ قَطْعِيَّةٍ لَا تَقُومُ الْمَصْلَحَةُ بِدُونِهَا، وَيَقُولُونَ عَلَى فَرْضِ التَّسْلِيمِ: كَيْفَ أَقْدَمَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى هَذَا الأمر الْمُخَالِفِ لِلنَّصِّ وَلَمْ يَكُنْ مُجْمَعًا عَلَيْهِ حِينَئِذٍ لِأَنَّكُمْ تَدَّعُونَ أنه إِنَّمَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ؟
وَالصَّوَابُ أَنَّ بَيْعَةَ عُمَرَ كَانَتْ بِالشُّورَى، وَلَكِنَّ هَذِهِ الشُّورَى حَصَلَتْ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ الَّذِي تَوَلَّاهَا بِنَفْسِهِ كَمَا قُلْنَا آنِفًا، وَإِنَّمَا تَعَجَّلَ ذَلِكَ لِخَوْفِهِ عَلَى الْأُمَّةِ فِتْنَةَ التَّفَرُّقِ وَالْخِلَافِ مِنْ بَعْدِهِ، فَشَاوَرَ أَهْلَ الرَّأْيِ وَالْمَكَانَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ فِيمَنْ يَلِي الأمر بَعْدَهُ؛ فَرأى الْأَكْثَرِينَ مِنْهُمْ يُوَافِقُونَهُ عَلَى أَنَّ أَمْثَلَهُمْ عُمَرُ، وَرأى بَعْضَهُمْ يَخَافُ مِنْ شِدَّتِهِ، فَكَانَ يَجْتَهِدُ فِي إِزَالَةِ ذَلِكَ مِنْ قُلُوبِهِمْ بِمِثْلِ قوله: إِنَّهُ يَرَانِي كَثِيرَ اللِّينِ فَيَشْتَدُّ أَيْ لِأَجْلِ أن يكون مِنْ مَجْمُوعِ سِيرَتِهِمَا الِاعْتِدَالُ أَوْ مَا هَذَا مَغْزَاهُ، حَتَّى أنه تَكَلَّفَ صُعُودَ الْمِنْبَرِ قَبْلَ وَفَاتِهِ وَتَكَلَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ بِمَا أَقْنَعَ الْقَوْمَ، فَعَهِدَ إِلَيْهِ فِي الأمر فِي حَيَاتِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ كَتَوْكِيلٍ لَهُ فِي مَرَضِهِ وَتَرْشِيحٍ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَإِنَّمَا الْعُمْدَةُ فِي جَعْلِهِ أَمِيرًا عَلَى مُبَايَعَةِ الْأُمَّةِ، وَالْمُبَايَعَةُ لَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهَا عَلَى الشُّورَى، وَلَكِنْ قَدْ يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى الشُّورَى لِأَجْلِ جَمْعِ الْكَلِمَةِ عَلَى وَاحِدٍ تَرْضَاهُ الْأُمَّةُ، فَإِذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ بِغَيْرِ تَشَاوُرٍ بَيْنَ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ كَأَنْ جَعَلُوا ذَلِكَ بِالِانْتِخَابِ الْمَعْرُوفِ الْآنَ فِي الْحُكُومَةِ الْجُمْهُورِيَّةِ وَمَا هُوَ فِي مَعْنَاهَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ، وَمَا سَبَقَ لِأَبِي بَكْرٍ مِنَ الْمُشَاوَرَةِ وَالْإِقْنَاعِ فِي تَوْلِيَةِ عُمَرَ أَغْنَى عَنِ الْمُشَاوَرَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى مُبَايَعَتِهِ وَصَدَقَ عَلَيْهِ أنه اتِّفَاقٌ بَعْدَ شُورَى أَوْ بِسَبَبِ الشُّورَى.
وَأَمَّا جَعْلُ عُمَرَ الشُّورَى فِي نَفَرٍ مُعَيَّنِينَ فَهُوَ اجْتِهَادٌ مِنْهُ فِي إِقَامَةِ هَذَا الرُّكْنِ مَعَ اتِّقَاءِ فِتْنَةِ الْخِلَافِ الَّتِي تُخْشَى مِنْ تَكْثِيرِ عَدَدِ الْمُتَشَاوِرِينَ، فَأُولَئِكَ النَّفَرُ الَّذِينَ جَعَلَهَا فِيهِمْ هُمْ أَهْلُ الرَّأْيِ وَالْمَكَانَةِ فِي الْأُمَّةِ الَّذِينَ تَخْضَعُ لِرَأْيِهِمْ إِذَا اتَّفَقُوا وَتَتَعَصَّبُ لَهُمْ إِذَا اخْتَلَفُوا؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عُصْبَةٌ يَرَوْنَهُ أَهْلًا لِلْإِمَارَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَكَانَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ عُمَرُ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) هُمْ أُولِي الأمر أَوْ خَوَاصَّ أُولِي الأمر وَزُعَمَاءَهُمْ، وَهُمُ الْأَحَقُّ بِالشُّورَى كَمَا يُؤْخَذُ مِنَ الأمر فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ بِطَاعَةِ أُولِي الأمر مَعَ قَوْلِهِ- عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [4: 83] وَمِنَ الْمَشْهُورِ أَنَّ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي أُولِي الأمر قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُمُ الأمراءُ الْحَاكِمُونَ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُمُ الْعُلَمَاءُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعَبِّرُ بِكَلِمَةِ الْفُقَهَاءِ ومِنَ الْمَعْلُومِ أنه لَمْ يَكُنْ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُمَرَاءُ حَاكِمُونَ وَلَا صِنْفٌ يُسَمَّى الْفُقَهَاءُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِـ {أُولِي الأمر} الَّذِينَ تُرَدُّ إِلَيْهِمْ مَسَائِلُ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ: أَهْلُ الرَّأْيِ وَالْمَكَانَةِ فِي الْأُمَّةِ وَهُمُ الْعُلَمَاءُ بِمَصَالِحِهَا وَطُرُقِ حِفْظِهَا وَالْمَقْبُولَةُ آرَاؤُهُمْ عِنْدَ عَامَّتِهَا، فَمَا فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- هُوَ مُنْتَهَى مَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْمَلَ فِي إِقَامَةِ الشُّورَى بِحَسَبِ حَالِ الْأُمَّةِ وَاسْتِعْدَادِهَا فِي زَمَنِهِمَا. ثُمَّ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ بَادَرُوا بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ إِلَى مُبَايَعَةِ عَلِيٍّ مِنْ غَيْرِ اهْتِمَامٍ بِالتَّشَاوُرِ؛ لِأَنَّ الْكَفَاءَةَ الَّتِي يَرَوْنَهَا فِيهَا لَمْ تَكُنْ تَقْبَلُ شَرِكَةً تَدْعُو إِلَى إِجَالَةِ الرَّأْيِ، فَمُبَايَعَةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ كَانَتْ مِنَ الْأُمَّةِ بِرِضَاهَا، وَكَانُوا يَسْتَشِيرُونَ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا أَنَّ بَنِي أُمَيَّةَ قَدْ أَحَاطُوا بِعُثْمَانَ وَغَلَبُوا الْأُمَّةَ عَلَى رَأْيِهَا عِنْدَهُ، فَكَانَ مِنْ عَاقِبَةِ ذَلِكَ مَا كَانَ مِنَ الْفِتَنِ حَتَّى اسْتَقَرَّ الأمر فِيهِمْ بِقُوَّةِ الْعَصَبِيَّةِ وَالدَّهَاءِ، لَا بِاسْتِشَارَةِ الدَّهْمَاءِ؛ فَهُمُ الَّذِينَ هَدَمُوا قَاعِدَةَ الْحُكْمِ بِالشُّورَى فِي الإسلام بَدَلًا مِنْ إِقَامَتِهِ وَوَضْعِ الْقَوَانِينِ الَّتِي تَحْفَظُهَا، وَتَجْعَلُ اسْتِفَادَةَ الْأُمَّةَ مِنْهَا تَابِعَةً لِتَقَدُّمِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ وَأَعْمَالِ الْعُمْرَانِ فِيهَا، وَلَوْلَا هَذَا لَكَانَ ذَلِكَ الْمُلْكُ الَّذِي وَسَّعُوا دَائِرَتَهُ بِالْفُتُوحَاتِ أَثْبَتَ فِي نَفْسِهِ وَلَهُمْ، وَلَكَانَ شَأْنُ الإسلام أَعْظَمَ، وَانْتِشَارُهُ أَكْثَرَ وَأَعَمَّ، عَلَى أَنَّ هَذَا الِاسْتِبْدَادَ مِنْهُمْ قَدْ كَانَ مُعْظَمُهُ مَصْرُوفًا إِلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى سُلْطَتِهِمْ وَبَقَاءِ الْمُلْكِ فِي أُسْرَتِهِمْ، قَلَّمَا يَتَسَرَّبُ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَى الْإِدَارَةِ وَالْقَضَاءِ. وَكَانَتْ حُرِّيَّةُ انْتِقَادِ الْحُكَّامِ وَالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ عَلَى كَمَالِهَا حَتَّى تَبَرَّمَ مِنْهَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ فَقَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ: مَنْ قَالَ لِي اتَّقِ اللهَ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ- كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُؤَرِّخِينَ- وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَتَصَرَّفُونَ فِي بَيْتِ الْمَالِ بِأَهْوَائِهِمْ فِي الْغَالِبِ، وَلَمَّا أَفْضَى الأمر إِلَى وَارِثِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ- رَحِمَهُ اللهُ تعالى- أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ قَوْمِهِ، فَلَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ ذَلِكَ.
ثُمَّ رَسَخَتِ السُّلْطَةُ الشَّخْصِيَّةُ فِي زَمَنِ الْعَبَّاسِيِّينَ لِمَا كَانَ لِلْأَعَاجِمِ مِنَ السُّلْطَانِ فِي مُلْكِهِمْ وَجَرَى سَائِرُ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ وَجَارَاهُمْ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الدِّينِ بَعْدَ مَا كَانَ لِعُلَمَاءِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الْإِنْكَارِ الشَّدِيدِ عَلَى الْمُلُوكِ وَالأمراءِ فِي زَمَنِ بَنِي أُمَيَّةَ وَأَوَائِلِ زَمَنِ الْعَبَّاسِيِّينَ، فَظَنَّ الْبَعِيدُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَا الْقَرِيبُ مِنْهُمْ أَنَّ السُّلْطَةَ فِي الإسلام اسْتِبْدَادِيَّةٌ شَخْصِيَّةٌ، وَأَنَّ الشُّورَى مَحْمَدَةٌ اخْتِيَارِيَّةٌ، فَيَاللهِ الْعَجَبَ: أَيُصَرِّحُ كِتَابُ اللهِ بِأَنَّ الأمر شُورَى فَيَجْعَلُ ذَلِكَ أَمْرًا ثَابِتًا مُقَرَّرًا، وَيَأْمُرُ نَبِيَّهُ- الْمَعْصُومَ مِنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى فِي سِيَاسَتِهِ وَحُكْمِهِ- بِأَنْ يَسْتَشِيرَ حَتَّى بَعْدَ أَنْ كَانَ مَا كَانَ مَنْ خَطَأِ مَنْ غَلَبَ رَأْيُهُمْ فِي الشُّورَى يَوْمَ أُحُدٍ، ثُمَّ يَتْرُكُ الْمُسْلِمُونَ الشُّورَى لَا يُطَالِبُونَ بِهَا وَهُمُ الْمُخَاطَبُونَ فِي الْقُرْآنِ بِالْأُمُورِ الْعَامَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِرَارًا كَثِيرَةً؟ هَذَا، وَقَدْ بَلَغَ مُلُكُوهُمْ مِنَ الظُّلْمِ وَالِاسْتِبْدَادِ مَبْلَغًا صَارُوا فِيهِ عَارًا عَلَى الإسلام بَلْ عَلَى الْبَشَرِ كُلِّهِ، إِلَّا مَنْ يَتَبَرَّأُ مِنْهُمْ، وَيَبْذُلُ جُهْدَهُ فِي رَاحَةِ الْعَالِمِ مِنْ شَرِّهِمْ. وَسَنَعُودُ إِلَى مَوْضُوعِ الْحُكُومَةِ الإسلاميَّةِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى أُولِي الأمر فِي سُورَةِ النِّسَاءِ إِنْ شَاءَ اللهُ تعالى.
قال تعالى بَعْدَ أَمْرِ نَبِيِّهِ بِالْمُشَاوَرَةِ: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ أَيْ فَإِذَا عَزَمْتَ بَعْدَ الْمُشَاوَرَةِ فِي الأمر عَلَى إِمْضَاءِ مَا تُرَجِّحُهُ الشُّورَى وَأَعْدَدْتَ لَهُ عُدَّتَهُ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فِي إِمْضَائِهِ، وَكُنْ وَاثِقًا بِمَعُونَتِهِ وَتَأْيِيدِهِ لَكَ فِيهِ، وَلَا تَتَّكِلْ عَلَى حَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ، بَلِ اعْلَمْ أَنَّ وَرَاءَ مَا أَتَيْتَهُ وَمَا أُوتِيتَهُ قُوَّةً أَعْلَى وَأَكْمَلَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ بِهَا الثِّقَةُ وَعَلَيْهَا الْمُعَوَّلُ، وَإِلَيْهَا اللُّجْأُ إِذَا تَقَطَّعَتِ الْأَسْبَابُ وَأُغْلِقَتِ الْأَبْوَابُ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْفِعْلِ وَإِنْ كَأن يكون بَعْدَ الْفِكْرِ وَإِحْكَامِ الرَّأْيِ وَالْمُشَاوَرَةِ وَأَخْذِ الْأُهْبَةِ، فَذَلِكَ كُلُّهُ لَا يَكْفِي لِلنَّجَاحِ إِلَّا بِمَعُونَةِ اللهِ وَتَوْفِيقِهِ؛ لِأَنَّ الْمَوَانِعَ الْخَارِجِيَّةَ لَهُ وَالْعَوَائِقَ دُونَهُ لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا اللهُ تعالى، فَلابد لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الِاتِّكَالِ عَلَيْهِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ.
إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَى حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ مَعَ الْعَمَلِ فِي الْأَسْبَابِ بِسُنَّتِهِ، أَقُولُ: وَمَنْ أَحَبَّهُ اللهُ عَصَمَهُ مِنَ الْغُرُورِ بِاسْتِعْدَادِهِ، وَالرُّكُونِ إِلَى عُدَّتِهِ وَعَتَادِهِ، وَالْبَطَرِ الَّذِي يَصْرِفُهُ عَنِ النَّظَرِ فِيمَا يَعْرِضُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى لَا يُقَدِّرَهُ قَدْرَهُ وَلَا يُحْكِمَ فِيهِ أَمْرَهُ، فَبَدَلًا مِنْ أن يكون نَظَرُهُ فِي الْأُمُورِ بِعَيْنِ الْعُجْبِ وَالْغُرُورِ وَاسْتِمَاعُهُ لِأَنْبَائِهَا بِأُذُنِ الْغَفْلَةِ وَالِازْدِرَاءِ وَمُبَاشَرَتُهُ لَهَا بَيَدِ التَّهَاوُنِ يُلْقِيَ السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ، وَيَنْظُرُ بِعَيْنِ الْعِبْرَةِ فَبَصَرُهُ حِينَئِذٍ حَدِيدٌ، وَيَبْطِشُ بِيَدِ الْحَزْمِ فَبَطْشُهُ قَوِيٌّ شَدِيدٌ؛ ذَلِكَ بأنه يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ وَيَعْمَلُ لِلْحَقِّ لَا لِلْبَاطِلِ الَّذِي يُزَيِّنُهُ الْهَوَى وَيُدْلِي بِهِ الْغُرُورُ، فَيَكُونُ مِصْدَاقًا لِلْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: «فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا».
الْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي وُجُوبِ إِمْضَاءِ الْعَزِيمَةِ الْمُسْتَكْمِلَةِ لِشُرُوطِهَا- وَأَهَمُّهَا فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ حَرْبِيَّةً كَانَتْ أَوْ سِيَاسِيَّةً أَوْ إِدَارِيَّةً الْمُشَاوَرَةُ- وَذَلِكَ أَنَّ نَقْضَ الْعَزِيمَةِ ضَعْفٌ فِي النَّفْسِ وَزِلْزَالٌ فِي الْأَخْلَاقِ لَا يُوثَقُ بِمَنِ اعْتَادَهُ فِي قَوْلٍ وَلَا عَمَلٍ، فَإِذَا كَانَ نَاقِضَ الْعَزِيمَةِ رَئِيسُ حُكُومَةٍ أَوْ قَائِدُ جَيْشٍ كَانَ ظُهُورُ نَقْضِ الْعَزِيمَةِ مِنْهُ نَاقِضًا لِلثِّقَةِ بِحُكُومَتِهِ وَبِجَيْشِهِ، وَلاسيما إِذَا كَانَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ؛ وَلِذَلِكَ لَمْ يُصْغِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى قَوْلِ الَّذِينَ أَشَارُوا عَلَيْهِ بِالْخُرُوجِ إِلَى أُحُدٍ حِينَ أَرَادُوا الرُّجُوعَ عَنْ رَأْيِهِمْ خَشْيَةَ أن يكونوا قَدِ اسْتَكْرَهُوهُ عَلَى الْخُرُوجِ- وَكَانَ قَدْ لَبِسَ لَأْمَتَهُ وَخَرَجَ- وَذَلِكَ شُرُوعٌ فِي الْعَمَلِ بَعْدَ أَنْ أَخَذَتِ الشُّورَى حَقَّهَا- كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ- فَعَلَّمَهُمْ بِذَلِكَ أَنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ وَقْتًا وَأَنَّ وَقْتَ الْمُشَاوَرَةِ مَتَى انْتَهَى جَاءَ دَوْرُ الْعَمَلِ، وَأَنَّ الرَّئِيسَ إِذَا شَرَعَ فِي الْعَمَلِ تَنْفِيذًا لِلشُّورَى لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ عَزِيمَتَهُ وَيُبْطِلَ عَمَلَهُ، وَإِنْ كَانَ يَرَى أَنَّ أَهْلَ الشُّورَى أَخْطَئُوا الرَّأْيَ- كَمَا كَانَ يَرَى صلى الله عليه وسلم فِي مَسْأَلَةِ الْخُرُوجِ إِلَى أُحُدٍ كَمَا تَقَدَّمَ- وَيُمْكِنُ إِرْجَاعُ ذَلِكَ إِلَى قَاعِدَةِ ارْتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ، وَأَيُّ ضَرَرٍ أَشُدُّ مَنْ فَسْخِ الْعَزِيمَةِ وَمَا فِيهِ مِنَ الضَّعْفِ وَالْفَشَلِ وَإِبْطَالِ الثِّقَةِ؟
وَإِنَّنَا نَرَى أَهْلَ السِّيَاسَةِ وَالْحَرْبِ يَجْرُونَ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَمِنَ الْوَقَائِعِ الَّتِي تُوجِبُ الْعِبْرَةَ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ لَمَّا كَانَ فِي لُنْدُرَةَ عَاصِمَةِ انْكِلْتِرَا سَنَةَ 1301هـ.
ذَاكَرَهُ وُزَرَاءُ الْإِنْكِلِيزِ فِي أُمُورِ مِصْرَ وَالسُّودَانِ الْتِمَاسَ خِدْمَتِهِ لِبِلَادِهِ وَقَدْ سَأَلَهُ يَوْمَئِذٍ رَئِيسُ الْوُزَرَاءِ أَوْ غَيْرُهُ مِنْهُمْ (الشَّكُ مِنِّي) عَنْ رَأْيِهِ فِي حَمْلَةِ هكس بَاشَا الَّتِي أَرْسَلُوهَا لِمُحَارَبَةِ مَهْدِيِّ السُّودَانِ الَّذِي ظَهَرَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَبَيَّنَ لَهُ بَعْدَ مُرَاجَعَةٍ طَوِيلَةٍ أَنَّ هَذِهِ الْحَمْلَةَ لَا تَنْجَحُ بَلْ يَقْضِي عَلَيْهَا السُّودَانِيُّونَ. ثُمَّ عَادَ الْأُسْتَاذُ مِنْ أُورُبَّا إِلَى بَيْرُوتَ، وَبَعْدَ عَوْدَتِهِ جَاءَتِ الأخبار بِقَتْلِ هكس بَاشَا وَتَنْكِيلِ السُّودَانِيِّينَ بِحَمْلَتِهِ، فَبَعَثَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِرِسَالَةٍ بَرْقِيَّةٍ إِلَى الْوَزِيرِ الْإِنْكِلِيزِيِّ يُذَكِّرُهُ فِيهَا بِرَأْيِهِ وَكَيْفَ صَدَقَ. فَجَاءَهُ الْجَوَابُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْوَزِيرِ وَمَعْنَاهُ: قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ مَا قُلْتَهُ لَنَا مَعْقُولٌ وَجِيهٌ وَلَكِنَّ السِّيَاسَةَ مَتَى قَرَّرَتْ شَيْئًا وَشَرَعَتْ فِيهِ وَجَبَ إِمْضَاؤُهُ وَامْتَنَعَ نَقْضُهُ وَالرُّجُوعُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ خَطَأً.
{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ} الْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ مَسُوقٌ لِبَيَانِ وَجْهِ وُجُوبِ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ تعالى بَعْدَ الْمُشَاوَرَةِ وَالْعَزِيمَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى أَخْذِ الْأُهْبَةِ وَالِاسْتِعْدَادِ بِمَا يُسْتَطَاعُ مِنْ حَوْلٍ وَقُوَّةٍ، أَيْ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ بِالْعَمَلِ بِسُنَنِهِ وَمَا يَكُونُ لَكُمْ مِنَ الْقُوَّةِ وَالثَّبَاتِ بِالِاتِّكَالِ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَمَعُونَتِهِ، فَلَا غَالِبَ لَكُمْ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ نَصَبَهُمْ حِرْمَانُهُمْ مِنَ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ تعالى غَرَضًا لِلْقُنُوطِ وَالْيَأْسِ.
{وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ} بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ مِنَ الْفَشَلِ وَعِصْيَانِ الْقَائِدِ فِيمَا حَتَّمَهُ مِنْ عَمَلٍ- كَمَا جَرَى لَكُمْ فِي أُحُدٍ- أَوْ بِالْإِعْجَابِ بِالْكَثْرَةِ، وَالِاعْتِمَادِ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ وَالْقُوَّةِ، وَهُوَ مُخِلٌّ بِالتَّوَكُّلِ- كَمَا جَرَى يَوْمَ حُنَيْنٍ- {فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} أَيْ مِنْ بَعْدِ خِذْلَانِهِ؛ أَيْ لَا أَحَدَ يَمْلِكُ لَكُمْ حِينَئِذٍ نَصْرًا، وَلَا أَنْ يَدْفَعَ عَنْكُمْ ضُرًّا.
{وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} وَلَا يَتَوَكَّلُوا عَلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ النَّصْرَ بِيَدِهِ وَهُوَ الْمُوَفِّقُ لِأَسْبَابِهِ وَأُهَبِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ أَسْبَابَ النَّصْرِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ (رَاجِعْ لَفْظَ نَصْرٍ فِي الْأَجْزَاءِ السَّابِقَةِ).
قَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ التَّوَكُّلَ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ، وَأَنَّ تَرْكَ الْأَسْبَابِ بِدَعْوَى التَّوَكُّلِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ جَهْلٍ بِالشَّرْعِ أَوْ فَسَادٍ فِي الْعَقْلِ، فَالتَّوَكُّلُ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ، وَالْعَمَلُ بِالْأَسْبَابِ مَحَلُّهُ الْأَعْضَاءُ وَالْجَوَارِحُ، وَالْإِنْسَانُ مَسُوقٌ إِلَيْهِ بِمُقْتَضَى {فِطْرَةِ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ} [30: 30] وَمَأْمُورٌ بِهِ فِي الشَّرْعِ. قال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [67: 15] وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [4: 71] وَقَالَ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [8: 60] وَقَالَ: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [2: 197]- رَاجِعْ تَفْسِيرَهَا- وَقَالَ لِنَبِيِّهِ لُوطٍ عليه السلام: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} [11: 81] وَقَالَ لِنَبِيِّهِ مُوسَى عليه السلام: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا} [4: 23] وَقَالَ فِي الْحِكَايَةِ عَنْ نَبِيِّهِ يَعْقُوبَ لِنَبِيِّهِ يُوسُفَ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-: {يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [12: 5] وَقَالَ حِكَايَةً عَنْهُ أيضا: {يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [12: 67] فَأَمَرَهُمْ بِالْحَذَرِ مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى أنه مُتَوَكِّلٌ عَلَى اللهِ وَالتَّذْكِيرِ بِوُجُوبِ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، فَجَمَعَ بَيْنَ الْوَاجِبَيْنِ، وَبَيَّنَ أنه لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا، وَلَا غَنَاءَ لِلْمُؤْمِنِ عَنْهُمَا.
ذَلِكَ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَوَكَّلَ وَلَمْ يَسْتَعِدَّ لِلْأَمْرِ وَيَأْخُذْ لَهُ أُهْبَتَهُ بِحَسَبِ سُنَّةِ اللهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ يَقَعُ فِي الْحَسْرَةِ وَالنَّدَمِ عِنْدَمَا يَخِيبُ وَيَفُوتُهُ غَرَضُهُ فَيَكُونُ مَلُومًا شَرْعًا وَعَقْلًا، كَمَا قال تعالى فِي مَسْأَلَةِ الْإِسْرَافِ فِي الْمَالِ: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [17: 29] وَإِذَا هُوَ اسْتَعَدَّ وَأَخَذَ بِالْأَسْبَابِ وَاعْتَمَدَ عَلَيْهَا غَافِلًا قَلْبُهُ عَنِ اللهِ تعالى فَإِنَّهُ يَكُونُ عُرْضَةً لِلْجَزَعِ وَالْهَلَعِ إِذَا خَابَ سَعْيُهُ وَلَمْ يَنَلْ مُرَادَهُ فَيَفُوتُهُ الصَّبْرُ وَالثَّبَاتُ اللَّذَانِ يُهَوِّنَانِ عَلَيْهِ الأمر، حَتَّى لَا يَدْرِيَ كَيْفَ يَسْتَفِيدُ مِنَ الْخَيْبَةِ وَيَتَدَارَكُ أَمْرَهُ فِيهَا، وَرُبَّمَا وَقَعَ فِي الْيَأْسِ الَّذِي لَا مَطْمَعَ مَعَهُ فِي فَلَاحٍ وَلَا نَجَاحٍ؛ وَلِذَلِكَ قَرَنَ اللهُ الصَّبْرَ بِالتَّوَكُّلِ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ، قال تعالى حِكَايَةً عَنِ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- فِي مُحَاجَّةِ أَقْوَامِهِمْ: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [14: 12] وَذَكَرُوا أَنَّ اللهَ هَدَاهُمْ سُبُلَهُ وَهِيَ سُنَنُهُ فِي الْأَسْبَابِ وَأَنَّهُمْ مُوَطِّنُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ لِأَنَّهُمْ مُتَوَكِّلُونَ عَلَيْهِ تعالى. وَوَصَفَ الَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا بِقوله: {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [16: 42] وَقَالَ: {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [29: 58، 59] فَوَصَفَهُمْ بِالْعَمَلِ وَأَسْنَدَ إِلَيْهِمُ الصَّبْرَ وَالتَّوَكُّلَ، وَقَالَ لِخَاتَمِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ: {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [73: 9، 10] كَمَا قَالَ لَهُ: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا} [33: 48] فَهَاهُنَا قَرَنَ أَمْرَهُ بِالتَّوَكُّلِ بِنَهْيهِ عَنِ الْعَمَلِ بِقَوْلِ مَنْ لَا يُوثَقُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ يَغُشُّ وَلَا يَنْصَحُ، كَمَا أنه قَرَنَهُ بِالأمر بِالْمُشَاوَرَةِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا أَعْنِي قوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر} وَكُلُّ ذَلِكَ مِنِ اتِّخَاذِ الْأَسْبَابِ سَلْبًا وَإِيجَابًا.
وَجَاءَ ذِكْرُ التَّوَكُّلِ فِي مَقَامِ ذِكْرِ الْحِرْمَانِ مِنَ الرِّزْقِ أَوْ مِنْ سَعَتِهِ، كَمَا جَاءَ فِي مَقَامِ الصَّبْرِ عَلَى إِيذَاءِ الْمُعْتَدِينَ كَقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [65: 2، 3] وَقَوْلِهِ فِي مَقَامِ وُجُوبِ نَبْذِ الِاغْتِرَارِ بِسَعَةِ الرِّزْقِ خَشْيَةَ الْغَفْلَةِ عَنِ الْآخِرَةِ: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [42: 63] وَحَسْبُنَا هَذِهِ الْآيَاتِ فِي هِدَايَةِ الْقُرْآنِ وَتَحْقِيقِهِ فِي مَقَامِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَسْبَابِ وَالتَّوَكُّلِ، وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الشَّرِيفَةُ فَأَصَحُّ مَا وَرَدَ فِي التَّوَكُّلِ مِنْهَا حَدِيثُ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، وَقَدْ رُوِيَ بِعِدَّةِ أَلْفَاظٍ مِنْهَا: يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ، هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَلَا يَكْتَوُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مَعًا عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَالْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ خَبَّابٍ، وَكَذَا الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ وَزَادَ بَعْدَ قوله: «وَلَا يَتَطَيَّرُونَ»: وَلَا يَعْتَافُونَ ذَكَرَهُ فِي كَنْزِ الْعُمَّالِ. وَأَنْتَ تَرَى أنه قَرَنَ التَّوَكُّلَ بِتَرْكِ الْأَعْمَالِ الْوَهْمِيَّةِ دُونَ غَيْرِهَا، فَهُوَ لَمْ يَنْفِ مِنَ الْأَعْمَالِ إِلَّا الِاسْتِشْفَاءَ بِالرُّقْيَةِ، وَهِيَ لَيْسَتْ مِنَ الْأَسْبَابِ الْحَقِيقِيَّةِ لِلشِّفَاءِ، وَإِنَّمَا يَطْلُبُهَا طُلَّابُهَا عِنْدَ الْجَهْلِ بِالْأَسْبَابِ وَالْعَجْزِ عَنْهَا عَلَى أَنَّهَا مِنَ الْمُؤَثِّرَاتِ الْغَيْبِيَّةِ، وَإِنَّمَا الْمَطْلُوبُ شَرْعًا وَطَبْعًا وَنَقْلًا وَعَقْلًا أَنْ يُطْلَبَ الشَّيْءُ مِنْ سَبَبِهِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي يَسْتَوِي فِيهِ كُلُّ مَنْ تَعَاطَاهُ، وَإِلَّا التَّطَيُّرُ وَهُوَ التَّيَمُّنُ وَالتَّشَاؤُمُ بِحَرَكَاتِ الطَّيْرِ وَنَحْوِهِ، الِاعْتِيَافُ وَهُوَ: التَّفَاؤُلُ وَالتَّشَاؤُمُ بِالْأَلْفَاظِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
أَلَا قَدْ هَاجَنِي فَازْدَدْتُ وِجْدَا ** بُكَاءُ حَمَامَتَيْنِ تَجَاوَبَانِ

تَجَاوَبَتَا بِلَحْنٍ أَعْجَمِيٍّ ** عَلَى غُصْنَيْنِ مِنْ غَرَبٍ وَبَانِ

إِلَى أَنْ قَالَ:
فَكَانَ الْبَانُ أَنْ بَانَتْ سُلَيْمَى ** وَفِي الْغَرَبِ اغْتِرَابٌ غَيْرُ دَانِ